رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة : العالم العربي، المستقبل الممكن؟

ادريس الكروي : رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة

إن الوضعية الحالية للعالم العربي لها ما يبررها تاريخيا وماديا. تاريخيا من جراء خمسة أسباب رئيسية. السبب الأول راجع إلى الثمانينيات من القرن الماضي، الذي عرفت أواخره أزمة المرجعيات وبداية موت الإيديولوجيا، كما عرفها العالم إبان الحرب الباردة والمتمثلة في الصراع بين الرأسمالية والشيوعية. ففي خضم هذه المرحلة، وخاصة بعد سقوط حائط برلين سنة 1989، وجدت الدول العربية نفسها آنذاك أمام مد الإسلام السياسي وما لهذا الواقع من دور في مجال تدبير الواقع الجديد للنظام العالمي من لدن القوى العظمى.

السبب التاريخي الثاني يتمثل في انعكاسات الثورة الايرانية على المجتمعات العربية، وما كان لهذا من أبعاد على صعيد تأجيج الصراع المذهبي بين السنة والشيعة.

السبب التاريخي الثالث يكمن في تدويل المرجعيات الدينية واختراق المجتمعات العربية من طرف تنظيمات إسلامية متطرفة وعدمية أهلتها الأوضاع الداخلية في العديد من الدول العربية للبحث عن مشروعية سياسية.

السبب الرابع راجع إلى التأثيرات الخفية والظاهرة للصراع العربي – الإسرائيلي.

ثم السبب التاريخي الخامس مرده إلى شعور الشعوب العربية بالحيف من طرف المنتظم الدولي إزاء قضاياه العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

فهذه المحددات التاريخية وجدت تربة داخلية متهيئة ساعدت بكثير على تطوير أرضيات وطنية أضعفت الدول وأججت أزمة ثقة المواطنين في المؤسسات وضاعفت من حدة التوترات الاجتماعية؛ مما أدى إلى زعزعة الأسس التي يقوم عليها الرابط الاجتماعي والعيش المشترك في المجتمعات العربية، فضلا عن خلخلة توازناتها الاقتصادية وعن توفير شروط استمرار تخلفها التكنولوجي واحتدام تبعيتها التكنولوجية والأمنية والعسكرية للخارج.

وتتجسد عناصر هذه الأرضيات الداخلية في المحددات التالية:

ـ تمركز السلكة السياسية والاقتصادية بين أيدي أقليات من المجتمع باسم القبيلة والعشيرة والسلالة، وسيادة عقلانية مبنية على الاحتكار والريع الاجتماعي والاقتصادي، والحقوق المضمونة والامتيازات وانعكاسات هذا النموذج من حكامة الاقتصاد والمجتمع، البعيد كليا عن التدبير الديمقراطي، على ما هو أساسي في تحقيق التوازنات الاساسية داخل المجتمع وأعني بهذا العدل، والكرامة والحرية.

ـ أزمة منظومة التربية والتكوين في العديد من الدول العربية، وما لهذه الأزمة من عواقب على صعيد إنتاج العلوم والتكنولوجيا والكفاءات والنخب العلمية والسياسية والاقتصادية والنقابية والادارية والمدنية، كما ونوعا، في مستوى التحديات المطروحة على العالم العربي.

ـ نجاح استراتيجية تدجين واحتواء جزء مهم مما تبقى من النخب الثقافية والسياسية والمدنية من طرف الطبقات الحاكمة، مما حال دون تمكّن هذه النخب من مواكبة التطورات التي عرفتها المجتمعات العربية، وبالتالي من قيادتها والانخراط الملتزم فيها والتحكم والتأثير في مجرياتها.

ـ ثم احتدام الفوارق الاجتماعية وعدم استفادة الشعوب العربية من الخيرات التي تساهم في إنتاجها.

ولقد كانت لهذه المحددات انعكاسات هذا الوضع على الواقع الحالي للمجتمعات العربية؛ مما عقد إشكاليات تبعيتها الاقتصادية وتخلفها التكنولوجي، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات القليلة جدا.

إن هذه المحددات مجتمعة أثرت ليس فقط على التماسك الاجتماعي بل أصبحنا نشهد في العديد من الدول العربية بروز وتطور حركات احتجاجية تارة عفوية وتارة أخرى منظمة تقودها أكثر فأكثر الفئات المهمشة والهيئات المقصية من اللعبة السياسية والسلطة الاقتصادية. وبما أن هذه الفئات الاجتماعية وهذه الهيئات لا تجد مكانا لها في الحقل السياسي التقليدي فإنها تتجه، بوسائل غالبا غير سلمية، نحو تطوير قدراتها على الاحتجاج وعلى إحداث حالة الاستقرار داخل الدول المعنية، معتمدة في ذلك على التشكيك في مشروعية الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة.

إن هذه الحركات استطاعت التحول إلى سلط مضادة حقيقية، وجدت في رياح الحرية والديمقراطية التي هبت خلال بداية التسعينيات في كل ربوع العالم خير حليف، إضافة إلى تكاثر شبكات التعاون بفضل ما أتت به الثورة الرقمية من أدوات تتيح لها اختراق المجتمع المدني المنظم الذي أصبح عرضة سهلة لبعض القوى والتيارات، الخفية أو الظاهرة، التي تسخر هذه الحركات الاجتماعية الاحتجاجية والشبكات المتفرعة عنها في سعيها إلى الحصول على شرعية سياسية داخل المجتمعات المعنية.

ومن الطبيعي أن تؤدي كل هذه الهزات، بطريقة مباشرة وآنية، إلى زعزعة الأمن والاستقرار في العالم العربي.

ويتجلى هذا على وجه الخصوص من خلال الطرق العنيفة السائدة حاليا لحل المشاكل والنزاعات والخلاف والاختلاف بين الأفراد والجماعات والدول، وكذا عبر طابع المواجهة والصراع الذي تتسم به العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، واحتدام أوجه الانكفاف على الهوية بمعناها الضيق المنغلق، والسعي إلى العودة إلى أسس التاريخ الأصيل والدين في أبعادهما العتيقة والمحافظة والبعيدة عن روح العصر، وبروز وتطور الحروب والصراعات العرقية والإثنية والقبلية والدينية والبين قطرية، وما يصاحب ذلك من ضروب التطرف من كل الأطياف والاتجاهات، وسيادة التعصب، وتطور ثقافة الموت والكراهية والعدوانية والإرهاب والترهيب داخل المجتمع والتدخل في شؤون الآخر.

لذا، فليس غريبا أن يتأثر التماسك الاجتماعي بعمق بفعل هذه التطورات داخل المجتمعات العربية. ومن النتائج المدمرة لهذا كله اضطرار أعداد غفيرة من السكان إلى الهجرة الجماعية، وتفكك الدول الأم، وتدمير التراث الحضاري والثقافي للشعوب، بما يعنيه ذلك من طمس للذاكرة الجماعية ومحو لإرث يعود للإنسانية جمعاء، والتدمير الذاتي للقدرات التنموية للبلدان موضوع هذه الصراعات، وبالتالي استمرار معاناة مجتمعاتها من التأخر التاريخي والتكنولوجي والتنموي.

ولا شك في أن الأجيال المقبلة لهذه المجتمعات ستؤدي غاليا ثمن هذا المنحى، وستحتاج إلى زمن طويل كي تتدارك تأخرها لتلتحق بركب الحضارات الإنسانية المتقدمة.

فعلى عكس ما يروج فإن هذا الوضع ليس راجعا إلى مؤامرة خارجية؛ ذلك أن المحددات التاريخية والمادية التي تطرقنا لها سابقا في تحليلنا لوضع العالم العربي توحي بأنه لا يمكن للمحلل الموضوعي أن يؤمن بأطروحة المؤامرة الخارجية لشرح الأوضاع الحالية للعالم العربي. ففي اعتقادي إن ما يشهده العالم العربي اليوم من هزات عنيفة هو وليد بالأساس لعناصر داخلية؛ وعلى رأسهما عنصرين مهمين:

ـ عدم تمكن العديد من الدول العربية من إيجاد أجوبة بنوية ملائمة على إشكالية كبرى كمينة في تحدي التوفيق بين الديمقراطية والحداثة والدين.

ـ وعدم استطاعة المجتمعات العربية بلورة مرجعية متوافق بشأنها بين مختلف الفئات والقوى الحية بهذه الأقطار لبناء مشروع مجتمعي ونموذج تنموي تقودهما دولة وطنية قوية وتنخرط فيهما نخب متنورة وملتزمة، مشروع مجتمعي ونموذج تنموي مبنيان على رؤية استراتيجية موحدة للمصير الجماعي، مرساة على مقاربة حقوقية تضمن الكرامة والحرية والعدالة، وعلى حكامة تشاركية تقوي أسس الحوار المدني والاجتماعي وتعزز تعاقدات اجتماعية وسياسية كبرى، وكذا على سياسة نمو قوامها وطنية اقتصادية تقودها نهضة فكرية وثقافية متفتحة على قضايا العصر تجعل من التدبير الذكي والمتنور والمنفتح للحقل الديني، ومن حرية الإبداع، ومن اقتصاد المعرفة مفاتيح رئيسية لمواكبة هذا المشروع المجتمعي وهذا النموذج التنموي.

فهذا المشروع وهذا النموذج هما الكفيلان باحتواء الأجيال الجديدة من الحروب والعنف والكراهية والعدوانية الاجتماعية والإرهاب والترهيب والإقصاء والانغلاق، المؤدية كلها إلى إشاعة ثقافة الموت، خاصة لدى الشباب.

لكن في اعتقادي، وبعيدا عن كل تفاؤل مفرط وكذا عن كل تشاؤم مبالغ فيه، باستطاعة العالم العربي أن يتخطى هذه المحنة وهذه الأوضاع التي يجتازها، إذ بإمكانه تحويلها إلى فرص لفتح آفاق جديدة للدول والشعوب العربية في إطار فضاء عربي موحد، كل مقومات تحقيقه متوفرة؛ وعلى رأسها رأسمال طبيعي هائل، وطفرة ديموغرافية حقيقية، وموارد مالية كبيرة، وموقع جيوستراتيجي استثنائي، وعمق حضاري متميز، وعناصر وحدة قل نظيرها في العالم وعلى رأسها وحدة اللغة والدين والتاريخ، والامتداد المجالي، والتكامل الاقتصادي.

لقد أصبح هذا البعد الاندماجي لا مندوحة عنه لتطوير وسائل المناعة الداخلية، وتقوية القدرات التفاوضية، وكذا لاحتواء التبعية الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية والعسكرية للخارج لكافة الأقطار العربية.

وإن هذا الاختيار الجيو-سياسي والجيو-استراتيجي يتطلب شروطا موضوعية؛ من أهمها احترام تعددية النماذج التنموية والخصوصيات القطرية، واحترام السيادة الوطنية لكل بلد، واعتماد الاندماج الجهوي والوحدة كخيار جماعي لصون المصير المشترك. وهذا ما يتطلب بدوره نخبا سياسية جديدة منفتحة على قضايا العصر، وحكامة مسؤولة تنصت لتطلعات شعوبها ولانتظاراتهم، وتدبيرا مؤسسيا ذكيا يوفر شروط التوفيق الضروري بين الديمقراطية والحداثة والدين؛ ففي هذه الأبعاد العميقة يتجلى، في نظرنا، المستقبل الممكن للعالم العربي، مستقبل من شأنه أن يحول الدمار الحالي إلى أمل في غد أفضل.

Loading...